كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال والسعادة وحرمان البعض مما يختص به الإنسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان والنبات وجميع التركيبات المعدنية وغيرها كذلك فشئ من هذه الأنواع الموجودة- وهي ألوف وألوف- لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده، وهي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته، وأما الافراد والاشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال، وتفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل والأسباب المخالفة لانها محفوفة بها ولابد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها وسببيتها.
ولو فرض شيء من هذه الأنواع غير متأثر من شيء من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة وبرودة ونور وظلمة ورطوبة ويبوسة والسمومات والمواد الارضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا، وإبطال العلل والأسباب ثانيا، وفيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك.
ولا ضير في بطلان مساعي بعض الافراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال والغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع وغايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك، وصرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.
فالعلة الموجبة لوجود النوع الإنساني لا تريد بفعلها إلا الإنسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه وآخرته إلا أن الإنسان لا يوجد إلا بتركيب مادي، وهذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الاجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها وتأثراتها المختلفة، ولازم ذلك سقوط بعض أفراد الإنسان دون الوصول إلى كمال الإنسانية فعلة وجود الإنسان تريد السعادة الإنسانية أولا وبالذات، وأما سقوط بعض الافراد فإنما هو مقصود ثانيا وبالعرض ليس بالقصد الاولي.
فخلقه تعالى الإنسان حكمته بلوغ الإنسان إلى غايته الكمالية، وأما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الإنساني، ولا أنه يوجب أن يكون خلقه الإنسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار، كيف؟ وعلة كفره التامة بعد وجوده علل وعوامل خارجية كثيرة جدا، وآخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره، وأما تعلق القضاء الإلهي بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره وإرادته ويضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطرارا.
وأما الشبهة الثانية فقوله: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر؟ مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته.
فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه، ولا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشئ فهو يمتنع صدور فعل عنه.
والتكليف وإن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الأحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين: توضيح ذلك ملخصا: أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة والبرهان أن ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله، ووجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص وينتهي إلى حالة الكمال، وبين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه، ويتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه.
فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوء وعليها سنابلها، والنطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية وهكذا، وليس النوع الإنساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة انسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.
والإنسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية، والعيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين وسنن جارية بين أفراد المجتمع وهي عقائد وأحكام وضعية اعتبارية- التكاليف الدينية أو غير الدينية- تتكون بالعمل بها في الإنسان عقائد وأخلاق وملكات هي الملاك في سعادة الإنسان في دنياه وكذا في آخرته وهي لوازم الأعمال المسماة بالثواب والعقاب.
فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للإنسان بحسب حالاته وملكاته النفسانية نحو كماله وسعادته يستكمل بطي هذا الطريق والعمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له وأبقى، ويخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه أن ساعدته موافقة الأسباب، ويفسد في مسيره نحو الكمال أن خذلته ومنعته.
فقول القائل وما الفائدة في التكليف؟ كقوله ما الفائدة في تغذي النبات؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد؟.
وأما قوله: وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الإنسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله ونقصه في وجوده الذي إنما يتم ويكمل له بالتدريج، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف ووضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق وحال الطرقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كلاول: لم عين هذا الطريق وهو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم يغيره؟ والجواب أن العلل والأسباب التي تجمعت على الإنسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة.
وإن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا وإفاضة جميع مراحل الكمال ومراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية وانتقاء المادة والقوة وجميع شؤون الامكان والموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته، وليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تدريجيا ففي الفرض خلف.
وأما الشبهة الثالثة فقوله هب إنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم؟ فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالايتمار به صفة العبودية لله سبحانه، ويظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله واستكمال من إبليس إما في جانب السعادة وإما في جانب الشقاوة، وقد اختار الثاني.
على أن تكليفه وتكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم وذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الإنسان إلى هداه وهو الملائكة، وعدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه والغواية فيه وهو إبليس وجنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام.
وأما الشبهة الرابعة: فقوله لماذا لعنني وأوجب عقابي بعد المعصية ولا فائدة له فيه؟ إلخ.
جوابه أن اللعن والعقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الأصل المولد لكل معصية، وليس الفعل الالهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الإشارة إليه.
وليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما وشربه فهلك به: لم لم يجعله الله شفاء وليس له في إماتته به نفع وله فيه أعظم الضرر؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه وينمو به بدنه؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل والأسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع والايجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل وعوامل خاصة من غير تخلف واختلاف قانونا كليا.
فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة، وإبطال العقاب من غير وجود شيء من أسبابه هدم لقانون العلية العام، وفي انهدامه انهدام كل شئ.
وأما الشبهة الخامسة: أعني قوله إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟ فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى والحق العملي والطاعة وأمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال والباطل والمعصية وأمثالها، والدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل، والصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته.
فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الإنسانية قائمة على ساقها والإنسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الإنساني ولم يمكنه الله منهم ولا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح به القرآن الكريم وحكاه عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة.
وأما الشبهة السادسة: فإما قوله لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟ فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا.
وأما قوله: ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي، ولا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة والخير من غير شر والنفع من غير ضر والثبات من غير تغير والطاعة من غير معصية والثواب من غير عقاب.
وأما ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله: يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم، قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} الأنبياء: 23.
وظاهر المنقول من قوله تعالى أنه جواب إجمالي عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيلي عن كل واحد واحد، ومحصله: أن هذه الشبهات جميعا سؤال واعتراض عليه تعالى: ولا يتوجه إليه اعتراض لأنه الله لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل.
وظاهر قوله تعالى أن قوله: {لا يسأل} متفرع على قوله: فإني الخ، فمفاد الكلام أن الله تعالى لما كان بإنيته الثابتة بذاته الغنية لذاته هو الإله المبدئ المعيد الذي يبتدئ منه كل شيء وينتهي إليه كل شيء فلا يتعلق في فعل يفعله بسبب فاعلي آخر دونه، ولا يحكم عليه سبب غائي آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كل فاعل، والغاية وراء كل غاية فكل فاعل يفعل بقوة فيه وإن القوة لله جميعا، وكل غاية إنما تقصد وتطلب لكمال ما فيه وخير ما عنده وبيده الخير كله.
ويتفرع عليه أنه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإن سبب الفعل إما فاعل وإما غاية وهو فاعل كل فاعل وغاية كل غاية، وأما غيره تعالى فلما كان ما عنده من قوة الفعل موهوبا له من عند الله، وما يكتسبه من جهة الخير والمصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الأسباب وتنظيم العوامل والشرائط فإنه مسؤول عن فعله لم فعله؟ وأكثر ما يسأل عنه إنما هو الغاية وجهة الخير والمصلحة، وخاصة في الأفعال التي يجري فيه الحسن والقبح والمدح والذم من الأفعال الاجتماعية في ظرف الاجتماع فإنها المتكئة على مصالحه، فهذا بيان تام يتوافق فيه البرهان والوحي.
وأما المتكلمون فإنهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة: أن أفعال الله هل تعلل بالاغراض؟ وما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أن الله لا يسأل عن فعله فالاشاعرة لتجويزهم الإرادة الجزافية واستناد الشرور والقبائح إليه تعالى ذكروا أن له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسنة وليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض وهو ترتب مصلحة محسنة على الفعل.